فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (75- 78):

{وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ} قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئا لاؤدين فيه حقه ولأتصدقن، فلما آتاه الله ذلك فعل ما نص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور.
وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري – فسماه- قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادع الله أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام: «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم عاود ثانيا فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما ترضي أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت» فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ويح ثعلبة» ثلاثا. ثم نزل {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]. فبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين على الصدقة، وقال لهما: «مرا بثعلبة وبفلان- رجل من بني سليم- فخذا صدقاتهما» فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا. الحديث، وهو مشهور.
وقيل: سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له. قال ابن عبد البر: قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ} الآية، إذ منع الزكاة، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} الآية. قلت: وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت.
قلت: وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالايمان، حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم.
وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير. قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم، إلا أن قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً} يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: {إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} على ما يأتي.
الثانية: قال علماؤنا: لما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ} احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة، فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها. و{من} رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال: إنهما لا ما القسم، والأول أظهر، والله أعلم.
الثالثة: العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به، قاله علماؤنا.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه، كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي: وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال: عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الايمان والكفر.
قلت: وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إن رجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به. قال أبو عمر: ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء. هذا هو الأشهر عن مالك. وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه، كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والأول أصح في النظر وطريق الأثر، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تجاوز الله لامتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد».
الرابعة: إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة، فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك. قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته» أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لان أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها. وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها.
الخامسة: قوله تعالى: {لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} دليل على أن من قال: إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه، وبه قال أبو حنيفة: وقال الشافعي: لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق.
وقال أحمد بن حنبل: يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق، لان العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر، بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك» لفظ الترمذي. وقال: وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم. ابن العربي: وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية.
السادسة: قوله تعالى: {فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي أعطاهم. {بَخِلُوا بِهِ} أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في آل عمران. {وَتَوَلَّوْا} أي عن طاعة الله. {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي عن الإسلام، أي مظهرون للاعراض عنه.
السابعة: قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً} مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم.
وقيل: أي أعقبهم البخل نفاقا، ولهذا قال: {بَخِلُوا بِهِ}. {إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} في موضع خفض، أي يلقون بخلهم أي جزاء بخلهم كما يقال: أنت تلقى غدا عملك.
وقيل: {إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي يلقون الله.
وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. {بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.
الثامنة: قوله تعالى: {نِفاقاً} النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» خرجه البخاري. وقد مضى في البقرة اشتقاق هذه الكلمة، فلا معنى لإعادتها. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها. وتعلقوا بحديث ضعيف الاسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما ثقيلان فقال علي: مالي أراكما ثقيلين؟ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلال المنافقين: «إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف» فقال علي: أفلا سألتماه؟ فقالا: هبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لكني سأسأله، فدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال: «قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا ائتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون» ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. وقالت طائفة: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا: أتينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أناس من أصحابه فقلنا: يا رسول الله، إنك قلت: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق» فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس، قال: فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ...} [المنافقون: 1]- الآية- أفأنتم كذلك؟» قلنا: لا. قال: «لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ}- الآيات الثلاث- أفأنتم كذلك؟» قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شيء أو فينا به. قال: «لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ} [الأحزاب: 72]- الآية- فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك؟» قلنا: لا. قال: «لا عليكم أنتم من ذلك براء». وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة. قالت طائفة: هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال. ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة. قال ابن العربي: والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد. قال علماؤنا: إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح: قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل، فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة.
وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الايمان. قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم.

.تفسير الآية رقم (79):

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ} هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة: {يَلْمِزُونَ} يعيبون. قال: وذلك أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم: ما أعظم رياءه، فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ}. وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا، فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية. وخرج مسلم عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة- قال: كنا نحامل، في رواية: على ظهورنا- قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء: فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}. يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب. والجهد: شيء قليل يعيش به المقل. والجهد والجهد بمعنى واحد. وقد تقدم. و{يَلْمِزُونَ} يعيبون. وقد تقدم. و{الْمُطَّوِّعِينَ} أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء، وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم. و{الَّذِينَ} في موضع خفض عطف على {الْمُؤْمِنِينَ}. ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه. {فَيَسْخَرُونَ} عطف على {يَلْمِزُونَ}. {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم.
وقال ابن عباس: هو خبر، أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار. ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم. وقد تقدم في البقرة.